فصل: فَصْلٌ: بَيَانُ حُكْمِ الِاسْتِيلَاءِ مِنْ الْكَفَرَةِ عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: بَيَانُ حُكْمِ الِاسْتِيلَاءِ مِنْ الْكَفَرَةِ عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ:

وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الِاسْتِيلَاءِ مِنْ الْكَفَرَةِ عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ أَصْلِ الْحُكْمِ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْكُفَّارَ إذَا دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ وَاسْتَوْلَوْا عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُحْرِزُوهَا بِدَارِهِمْ، إنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَهَا حَتَّى لَوْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ، وَأَخَذُوا مَا فِي أَيْدِيهِمْ، لَا يَصِيرُ مِلْكًا لَهُمْ، وَعَلَيْهِمْ رَدُّهَا إلَى أَرْبَابِهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَكَذَا لَوْ قَسَمُوهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ، فَأَخَذُوهَا مِنْ أَيْدِيهِمْ، أَخَذَهَا أَصْحَابُهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ قِسْمَتَهُمْ لَمْ تَجُزْ لِعَدَمِ الْمِلْكِ، فَكَانَ وُجُودُهَا وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، بِخِلَافِ قِسْمَةِ الْإِمَامِ الْغَنَائِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، إنَّهَا جَائِزَةٌ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ فِيهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْإِمَامِ إنَّمَا تَجُوزُ عِنْدَنَا إذَا اجْتَهَدَ وَأَفْضَى رَأْيُهُ إلَى الْمِلْكِ، حَتَّى لَوْ قَسَمَ مُجَازَفَةً لَا تَجُوزُ عَلَى أَنَّ الْقِسْمَةَ هُنَاكَ قَضَاءٌ صَدَرَ مِنْ إمَامٍ جَائِزِ الْقَضَاءِ، وَلَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا.
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُمْ أَيْضًا إذَا اسْتَوْلَوْا عَلَى رِقَابِ الْمُسْلِمِينَ، وَمُدَبِّرِيهِمْ، وَأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِمْ، وَمُكَاتَبِيهِمْ، أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَهُمْ، وَإِنْ أَحْرَزُوهُمْ بِالدَّارِ وَاخْتُلِفَ فِيمَا إذَا دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ فَاسْتَوْلَوْا عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَحْرَزُوهَا بِدَارِ الْحَرْبِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يَمْلِكُونَهَا حَتَّى لَوْ كَانَ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ الْحَرْبِيُّ، أَوْ بَاعَهُ، أَوْ كَاتَبَهُ، أَوْ دَبَّرَهُ، أَوْ كَانَتْ أَمَةً فَاسْتَوْلَدَهَا جَازَ ذَلِكَ خَاصَّةً وَقَالَ الشَّافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَمْلِكُونَهَا وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُمْ اسْتَوْلَوْا عَلَى مَالٍ مَعْصُومٍ، وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى مَالٍ مَعْصُومٍ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ كَاسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَاسْتِيلَائِهِمْ عَلَى الرِّقَابِ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ عِصْمَةَ مَالِ الْمُسْلِمِ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يُخَاطَبُونَ بِالْحُرُمَاتِ إذَا بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْعِبَادَاتِ وَالِاسْتِيلَاءُ يَكُونُ مَحْظُورًا، وَالْمَحْظُورُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ.
(وَلَنَا) أَنَّهُمْ اسْتَوْلَوْا عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ، وَمَنْ اسْتَوْلَى عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ يَمْلِكُهُ، كَمَنْ اسْتَوْلَى عَلَى الْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَالصَّيْدِ، وَدَلَالَةُ أَنَّ هَذَا الِاسْتِيلَاءَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ أَنَّ مِلْكَ الْمَالِكِ يَزُولُ بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَتَزُولُ الْعِصْمَةُ ضَرُورَةً بِزَوَالِ الْمِلْكِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى زَوَالِ الْمِلْكِ أَنَّ الْمِلْكَ هُوَ الِاخْتِصَاصُ بِالْمَحَلِّ فِي حَقِّ التَّصَرُّفِ، أَوْ شُرِعَ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَحَلِّ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَا يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بَعْدَ الدُّخُولِ، وَلَا يُمْكِنُهُ الدُّخُولُ بِنَفْسِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَاطَرَةِ الرُّوحِ، وَإِلْقَاءِ النَّفْسِ فِي التَّهْلُكَةِ، وَغَيْرُهُ قَدْ لَا يُوَافِقُهُ وَلَوْ وَافَقَهُ فَقَدْ لَا يَظْفَرُ بِهِ، وَلَوْ ظَفَرَ بِهِ قَلَّمَا يُمْكِنُهُمْ الِاسْتِرْدَادُ؛ لِأَنَّ الدَّارَ دَارُهُمْ، وَأَهْلُ الدَّارِ يَذُبُّونَ عَنْ دَارِهِمْ، فَإِذَا زَالَ مَعْنَى الْمِلْكِ أَوْ مَا شُرِعَ لَهُ الْمِلْكُ يَزُولُ الْمِلْكُ ضَرُورَةً.
وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَوْلَوْا عَلَى عَبِيدِنَا فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَالٌ قَابِلٌ لِلتَّمْلِيكِ بِالِاسْتِيلَاءِ، وَلِهَذَا يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ بِسَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ، بِخِلَافِ الْأَحْرَارِ، وَالْمُدَبَّرَيْنِ، وَالْمُكَاتَبِينَ، وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، وَهَذَا إذَا دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ فَاسْتَوْلَوْا عَلَى عَبِيدِ الْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزُوهُمْ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَأَمَّا إذَا أَبَقَ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ، وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَأَخَذَهُ الْكُفَّارُ لَا يَمْلِكُونَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ يَمْلِكُونَهُ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُمْ اسْتَوْلَوْا عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ فَيَمْلِكُونَهُ قِيَاسًا عَلَى الدَّابَّةِ الَّتِي نَدَّتْ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَأَخَذَهَا الْكُفَّارُ وَسَائِرَ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمْ اسْتَوْلَوْا عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ أَنَّهُ كَمَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَقَدْ زَالَ مِلْكُ الْمَالِكِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَزَوَالُ الْمِلْكِ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمَالِيَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الرِّقِّ؟.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ، فَلَا يُفِيدُ الْمِلْكَ قِيَاسًا عَلَى الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْأَحْرَارِ وَالْمُدَبَّرَيْنِ، وَالْمُكَاتَبِينَ، وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، وَدَلَالَةُ أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ أَنَّ مَحَلَّ الِاسْتِيلَاءِ هُوَ الْمَالُ، وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ الْمَالِيَّةَ فِي هَذَا الْمَحَلِّ إنَّمَا ثَبَتَتْ ضَرُورَةَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْغَانِمِينَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ هُوَ الْحُرِّيَّةُ، وَكَمَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَقَدْ زَالَ الْمِلْكُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَتَزُولُ الْمَالِيَّةُ الثَّابِتَةُ ضَرُورَةَ ثُبُوتِهِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَزُولَ الرِّقُّ أَيْضًا، إلَّا أَنَّهُ بَقِيَ شَرْعًا، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ، بِخِلَافِ الدَّابَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَالِيَّةَ فِيهَا لَا تَثْبُتُ ضَرُورَةَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ وَالْأَمْوَالُ كُلُّهَا مَحَلٌّ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ، وَبِخِلَافِ الْآبِقِ الْمُتَرَدِّدِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ حَقِيقَةً صَادَفَهُ وَهُوَ مَالٌ مَمْلُوكٌ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ الْمِلْكُ لِلْحَالِ لِوُجُودِ سَبَبِهِ، إلَّا أَنَّهُ تَأَخَّرَ إلَى وَقْتِ الْإِحْرَازِ بِالدَّارِ لِمَانِعٍ وَهُوَ مِلْكُ الْمَالِكِ، فَإِذَا أَحْرَزُوهُ بِدَارِهِمْ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ لِزَوَالِ الْمِلْكِ، فَيَعْمَلُ الِاسْتِيلَاءُ السَّابِقُ، وَعَمَلُهُ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ.
وَالْمِلْكُ لَا يَثْبُتُ إلَّا فِي الْمَالِ فَبَقِيَتْ الْمَالِيَّةُ ضَرُورَةَ الْمَرْءِ هَاهُنَا؛ لِاسْتِيلَاءِ حَالَ كَوْنِهِ مَالًا أَصْلًا، وَبَعْدَ مَا وُجِدَ الِاسْتِيلَاءُ لَا مَالِيَّةَ لِزَوَالِ الْمِلْكِ، فَلَمْ يُصَادِفْ الِاسْتِيلَاءُ مَحَلَّهُ فَلَا يُفِيدُ الْمِلْكَ وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الْحُكْمِ فَنَقُولُ: مِلْكُ الْمُسْلِمِ يَزُولُ عَنْ مَالِهِ بِاسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ، وَيَثْبُتُ لَهُمْ عِنْدَنَا عَلَى وَجْهٍ لَهُ حَقُّ الْإِعَادَةِ، إمَّا بِعِوَضٍ، أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ، حَتَّى لَوْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ فَأَخَذُوهَا وَأَحْرَزُوهَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ وَجَدَهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَإِنْ كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ لَا يَأْخُذُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهُ لَأَخَذَهُ بِمِثْلِهِ فَلَا يُفِيدُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ يَأْخُذُهُ بِقِيمَتِهِ إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالْقِيمَةِ مُرَاعَاةَ الْجَانِبَيْنِ: جَانِبِ الْمِلْكِ الْقَدِيمِ بِإِيصَالِهِ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ الْخَاصِّ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَجَانِبِ الْغَانِمِينَ بِصِيَانَةِ مِلْكِهِمْ الْخَاصِّ عَنْ الزَّوَالِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ.
فَكَانَ الْأَخْذُ بِالْقِيمَةِ نَظَرًا لِلْجَانِبَيْنِ وَمُرَاعَاةَ الْحَقَّيْنِ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَجَدَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، إنَّهُ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلْغَانِمِينَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ الْإِحْرَازِ لَيْسَ إلَّا الْحَقُّ الْمُتَأَكَّدُ، أَوْ الْمِلْكُ الْعَامُّ، فَكَانَتْ الْإِعَادَةُ إلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ رِعَايَةً لِلْمِلْكِ الْخَاصِّ أَوْلَى وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ بَعِيرًا لِرَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَرْبِ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ فَوَجَدَهُ صَاحِبُهُ فِي الْمَغْنَمِ، فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ فَقَالَ: «إنْ وَجَدْتَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ لَكَ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ لَكَ بِالْقِيمَةِ».
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْحَرْبِيُّ بَاعَ الْمَأْخُوذَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، فَإِنَّ الْمَالِكَ الْقَدِيمَ يَأْخُذُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ بَاعَهُ مُسْتَحَقُّ الْإِعَادَةِ إلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ فَبَقِيَ كَذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ مُدَبَّرًا أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَأَخْرَجُوهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، أَخَذَهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ بِغَيْرِ شَيْءٍ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ مِنْ وَجْهٍ، وَالْحُرُّ مِنْ وَجْهٍ أَوْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ بِالِاسْتِيلَاءِ، وَلِهَذَا لَا يَحْتَمِلُهُ بِسَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ، فَإِذَا حَصَلُوا فِي أَيْدِي الْغَانِمِينَ وَجَبَ رَدُّهُمْ إلَى الْمَالِكِ الْقَدِيمِ.
وَلَوْ وَهَبَ الْحَرْبِيُّ مَا مَلَكَهُ بِالِاسْتِيلَاءِ لِرَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَخَذَهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا لِلْجَانِبَيْنِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ مِنْ مُسْلِمٍ بِعِوَضٍ فَاسِدٍ، بِأَنْ بَاعَ مِنْ مُسْلِمٍ عَبْدَ الْمُسْلِمِ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، أَخَذَهُ صَاحِبُهُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لَمْ تَصِحَّ، فَكَانَ هَذَا بَيْعًا فَاسِدًا، وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ مَضْمُونٌ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِقِيمَتِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْعِوَضُ فَاسِدًا أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ إنْ شَاءَ، إنْ كَانَ اشْتَرَاهُ بِخِلَافِ جِنْسِهِ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ مُفِيدٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ اشْتَرَاهُ بِجِنْسِهِ لَكِنْ بِأَقَلَّ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ بِمِثْلِ مَا اشْتَرَاهُ، وَلَا يَكُونُ هَذَا رِبًا، لِأَنَّ الرِّبَا فَضْلُ مَالٍ قُصِدَ اسْتِحْقَاقُهُ بِالْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ يُقَابِلُهُ.
وَالْمَالِكُ الْقَدِيمُ لَا يَأْخُذُهُ بِطَرِيقِ الْبَيْعِ، بَلْ بِطَرِيقِ الْإِعَادَةِ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ، فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا، وَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهُ بِجِنْسِهِ بِمِثْلِهِ قَدْرًا لَا يَأْخُذُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ وَلَوْ اشْتَرَاهُ رَجُلٌ مِنْ الْعَدُوِّ ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ رَجُلٍ آخَرَ، ثُمَّ حَضَرَ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ أَخَذَهُ مِنْ الثَّانِي بِالثَّمَنِ الثَّانِي، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْبَيْعَ الثَّانِيَ، وَيَأْخُذَ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ مِنْ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ فِي النَّوَادِرِ- أَنَّ الْمَالِكَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ وَأَخَذَهُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ الثَّانِي.
(وَجْهُ) رِوَايَةِ النَّوَادِرِ أَنَّ أَخْذَ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ تَمَلُّكٌ بِبَدَلٍ فَأَشْبَهَ حَقَّ الشُّفْعَةِ، ثُمَّ حَقُّ الشَّفِيعِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي، فَكَذَا حَقُّهُ وَالْجَامِعُ أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَابِقٌ عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي، وَالسَّبْقُ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ.
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ فِي الْمَحَلِّ بِوَجْهٍ، بَلْ هُوَ زَائِلٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَإِنَّمَا الثَّابِتُ لَهُ حَقُّ الْإِعَادَةِ، وَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَعْنًى فِي الْمَحَلِّ، فَلَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ، فَلَا يَمْلِكُ نَقْضَهُ بِخِلَافِ حَقِّ الشُّفْعَةِ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَتَمَلَّكُ نَقْضَ الْمَشْفُوعِ فَيَقْتَضِي الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِتَمْلِيكِ الْبَائِعِ مِنْهُ عَلَى مَا عُرِفَ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ إذَا عَلِمَ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ بِشِرَاءِ الْمَأْسُورِ، وَتَرَكَ الطَّلَبَ زَمَانًا لَا يَبْطُلُ حَقُّهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْأَخْذَ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لِيُشْتَرَطَ لَهُ الطَّلَبُ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاثَبَةِ، وَعَلَى قِيَاسِ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَبْطُلُ كَمَا يَبْطُلُ حَقُّ الشُّفْعَةِ بِتَرْكِ الطَّلَبِ عَلَى الْمُوَاثَبَةِ.
وَكَذَلِكَ هَذَا الْحَقُّ يُورَثُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، حَتَّى لَوْ مَاتَ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ، كَانَ لِوَرَثَتِهِ أَنْ يَأْخُذُوهُ، وَعَلَى قِيَاسِ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- لَا يُورَثُ كَمَا لَا يُورَثُ حَقُّ الشُّفْعَةِ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْأَخْذَ لَيْسَ ابْتِدَاءَ تَمَلُّكٍ، بَلْ هُوَ إعَادَةٌ إلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ، بِخِلَافِ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، وَحَقُّ الْإِعَادَةِ إلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْإِرْثَ كَحَقِّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَلَيْسَ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ أَنْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ دُونَ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ لِلْكُلِّ فَلَا يَنْفَرِدُ بِهِ الْبَعْضُ، وَلَوْ اشْتَرَى الْمَأْسُورَ رَجُلٌ فَأَدْخَلَهُ دَارَ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْعَدُوُّ ثَانِيًا، فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ آخَرُ، فَأَدْخَلَهُ دَارَ الْإِسْلَامِ، فَالْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ أَحَقُّ مِنْ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ، وَلَيْسَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أُسِرَ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ نَزَلَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ مَنْزِلَةَ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ، فَكَانَ حَقُّ الْأَخْذِ لَهُ.
لَكِنْ إذَا أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ فَلِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالثَّمَنَيْنِ إنْ شَاءَ أَوْ يَدَعَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ بِالثَّمَنِ فَقَدْ قَامَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنَيْنِ، فَكَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمَالِ وَلَمْ يُوجَدْ الْأَسْرُ أَصْلًا، وَلَوْ أَعْتَقَ الْحَرْبِيُّ الْعَبْدَ الْمَأْسُورَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ دَبَّرَهُ، أَوْ كَاتَبَهُ، أَوْ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ فَاسْتَوْلَدَهَا، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا، فَذَلِكَ كُلُّهُ جَائِزٌ، وَعَتَقَتْ هِيَ وَأَوْلَادُهَا، وَكَذَا الْمُدَبَّرُ وَالْمُكَاتَبُ.
(أَمَّا) إذَا أَعْتَقَهُ فَلِأَنَّ يَدَهُ زَالَتْ عَنْهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَحَصَلَ فِي يَدِ نَفْسِهِ فَعَتَقَ عَلَيْهِ، كَالْعَبْدِ الْحَرْبِيِّ إذَا خَرَجَ إلَيْنَا مُسْلِمًا، وَالِاسْتِيلَادُ فَرْعُ النَّسَبِ، وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَقَهْرُ الْحَرْبِيِّ كَمَوْتِهِ، وَإِنْ مَاتَ عَتَقَتْ أُمُّ وَلَدِهِ، كَمَا إذَا غَلَبَ عَلَيْهِ، وَعِتْقُ الْمُدَبَّرِ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَالْمُكَاتَبُ صَارَ فِي يَدِ نَفْسِهِ؛ لِزَوَالِ يَدِ الْمَوْلَى عَنْهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ فَيَعْتِقُ، وَلِأَنَّهُ إذَا قُهِرَ الْمَوْلَى سَقَطَ عَنْهُ بَدَلُ الْكِتَابَةِ، فَعَتَقَ لِزَوَالِ رِقِّهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَأْسُورُ حُرًّا فَاشْتَرَاهُ مُسْلِمٌ وَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَلَا شَيْءَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْحُرِّ؛ لِأَنَّهُ مَا اشْتَرَاهُ حَقِيقَةً؛ إذْ الْحُرُّ لَا يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ، لَكِنَّهُ بَذَلَ مَالًا لِاسْتِخْلَاصِ الْأَسِيرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَكَانَ مُتَطَوِّعًا فِيهِ، فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَمَرَهُ الْحُرُّ بِذَلِكَ فَفَعَلَهُ بِأَمْرِهِ رَجَعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ بِذَلِكَ فَكَأَنَّهُ اسْتَقْرَضَ مِنْهُ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْمَالِ، فَأَقْرَضَهُ إيَّاهُ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى فُلَانٍ فَفَعَلَ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الِاسْتِقْرَاضِ، وَلَوْ أَسْلَمَ أَهْلُ الْحَرْبِ، وَمَتَاعُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي أَحْرَزُوهُ فِي أَيْدِيهِمْ فَهُوَ لَهُمْ وَلَا حَقَّ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ أَسْلَمُوا عَلَيْهِ، وَمَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الَّذِي ذَكَرنَا حُكْمُ اسْتِيلَاءِ الْكَافِرِ فَأَمَّا حُكْمُ الشِّرَاءِ، فَنَقُولُ: الْحَرْبِيُّ إذَا خَرَجَ إلَيْنَا فَاشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُ فِيهِ عِنْدَنَا؛ لَكِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ خَرَجَ إلَيْنَا بِعَبْدِهِ فَأَسْلَمَ فِي يَدِهِ يُجْبَرُ عَلَى الْبَيْعِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجُوزُ شِرَاءُ الْكَافِرِ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الْبُيُوعِ، فَإِنْ لَمْ يَبِعْهُ حَتَّى دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِهِ عَتَقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَعِنْدَهُمَا لَا يَعْتِقُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ لِإِحْرَازِ الْكَافِرِ مَالَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ أَثَرًا فِي زَوَالِ الْعِصْمَةِ لَا فِي زَوَالِ الْمِلْكِ، فَإِنَّ مَالَ الْكَافِرِ مَمْلُوكٌ لَكِنَّهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّ الثَّابِتَ لِلْحَرْبِيِّ بِالشِّرَاءِ مِلْكٌ مَجْبُورٌ عَلَى إزَالَتِهِ، فَلَوْ لَمْ يَعْتِقْ بِإِدْخَالِهِ دَارَ الْحَرْبِ لَمْ يَبْقَ الْمِلْكُ الثَّابِتُ لَهُ شَرْعًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ؛ لِتَعَذُّرِ الْجَبْرِ بِالْإِحْرَازِ بِوَجْهٍ، فَيُؤَدِّي إلَى تَغْيِيرِ الْمَشْرُوعِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ ثُمَّ طَرِيقُ الزَّوَالِ هُوَ الْإِحْرَازُ بِالدَّارِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ فِي الْأَصْلِ شَرْطَ زَوَالِ الْمِلْكِ وَالْعِصْمَةِ فِي اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ لِتَعَذُّرِ تَحْصِيلِ الْعِلَّةِ، فَأُقِيمَ الشَّرْطُ مَقَامَهُ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ مِنْ إقَامَةِ الشَّرْطِ مَقَامَ الْعِلَّةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ، وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا ذِمِّيًّا فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ مَجْبُورٌ عَلَى بَيْعِ الذِّمِّيِّ أَيْضًا، وَلَا يُتْرَكُ لِيَدْخُلَ دَارَ الْحَرْبِ وَلَوْ.
أَسْلَمَ عَبْدٌ لِحَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَعْتِقُ، وَهُوَ عَبْدٌ عَلَى حَالِهِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ وَإِنْ كَانَ وَاجِبَ الْإِزَالَةِ لَكِنْ لَا طَرِيقَ لِلزَّوَالِ هَاهُنَا، فَبَقِيَ عَلَى حَالِهِ، وَلَوْ خَرَجَ هَذَا الْعَبْدُ إلَيْنَا، فَإِنْ خَرَجَ مُرَاغِمًا لِمَوْلَاهُ وَلَحِقَ بِعَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ عَتَقَ؛ لِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ دَارُ قَهْرٍ وَغَلَبَةٍ، وَقَدْ قَهَرَ مَوْلَاهُ بِخُرُوجِهِ مُرَاغِمًا إيَّاهُ، فَصَارَ مُسْتَوْلِيًا عَلَى نَفْسِهِ مُسْتَغْنِمًا إيَّاهَا، فَيَزُولُ مِلْكُ الْمَالِكِ عَنْهُ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ فِي إبَاقِ الطَّائِفِ: «هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» وَلَوْ خَرَجَ غَيْرَ مُرَاغَمٍ فَإِنْ خَرَجَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى لِلتِّجَارَةِ فَهُوَ عَبْدٌ لِمَوْلَاهُ لَكِنْ يَبِيعُهُ الْإِمَامُ، وَيَقِفُ ثَمَنَهُ لِمَوْلَاهُ أَمَّا كَوْنُهُ عَبْدًا لِمَوْلَاهُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ قَاهِرًا مُسْتَوْلِيًا، وَلِأَنَّهُ مِلْكٌ مُسْتَحَقُّ الزَّوَالِ بِالْإِسْلَامِ.
وَأَمَّا وَقْفُ ثَمَنِهِ لِمَوْلَاهُ، فَلِأَنَّهُ بَاعَهُ عَلَى مِلْكِهِ.
وَكَذَا لَوْ لَمْ يَخْرُجْ مُرَاغِمًا وَلَكِنْ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ يُعْتَقُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ فَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ مِلْكٌ مُسْتَحَقُّ الزَّوَالِ، مُحْتَاجٌ إلَى طَرِيقِ الزَّوَالِ، وَقَدْ وُجِدَ وَهُوَ إحْرَازُ نَفْسِهِ بِمَنْعِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّهُ أَسْبَقُ مِنْ إحْرَازِ الْمُسْلِمِينَ إيَّاهُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لِيَمْلِكُوهُ، فَكَانَ أَوْلَى وَلَوْ لَمْ يَخْرُجْ وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَى الدَّارِ، وَلَكِنْ بَاعَهُ الْحَرْبِيُّ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ حَرْبِيٍّ، عَتَقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قَبِلَ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُعْتَقُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ كَمَا زَالَ مِلْكُ الْبَائِعِ عَنْهُ فَقَدْ ثَبَتَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي فِيهِ، فَلَا يُعْتَقُ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا مِلْكٌ مُسْتَحَقُّ الزَّوَالِ مَوْقُوفٌ زَوَالُهُ عَلَى سَبَبِ الزَّوَالِ أَوْ شَرْطِ الزَّوَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَإِذَا عَرَضَهُ عَلَى الْبَيْعِ، وَالْبَيْعُ سَبَبٌ لِزَوَالِ الْمِلْكِ فَقَدْ رَضِيَ بِزَوَالِهِ إلَى غَيْرِهِ فَكَانَ بِزَوَالِهِ إلَيْهِ أَرْضَى.
لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ الزَّوَالَ وَغَيْرُهُ مَا اسْتَحَقَّهُ، وَالرِّضَا بِالزَّوَالِ شَرْطُ الزَّوَالِ وَلَوْ أَسْلَمَ حَرْبِيٌّ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَهُ رَقِيقٌ فِيهَا، فَخَرَجَ هُوَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ تَبِعَهُ عَبْدُهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَافِرًا كَانَ أَوْ مُسْلِمًا فَهُوَ عَبْدٌ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُ إلَى مَوْلَاهُ كَخُرُوجِهِ مَعَ مَوْلَاهُ وَلَوْ كَانَ خَرَجَ مَعَ مَوْلَاهُ لَكَانَ عَبْدًا لِمَوْلَاهُ كَذَا هَذَا وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ:

وَأَمَّا بَيَانُ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ، فَنَقُولُ: لابد أَوَّلًا مِنْ مَعْرِفَةِ مَعْنَى الدَّارَيْنِ، دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْكُفْرِ؛ لِتُعْرَفَ الْأَحْكَامُ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهِمَا، وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ مَا بِهِ، تَصِيرُ الدَّارُ دَارَ إسْلَامٍ أَوْ دَارَ كُفْرٍ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّ دَارَ الْكُفْرِ تَصِيرُ دَارَ إسْلَامٍ بِظُهُورِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِيهَا وَاخْتَلَفُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، إنَّهَا بِمَاذَا تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّهَا لَا تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ إلَّا بِثَلَاثِ شَرَائِطَ، أَحَدُهَا: ظُهُورُ أَحْكَامِ الْكُفْرِ فِيهَا وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُتَاخِمَةً لِدَارِ الْكُفْرِ وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَبْقَى فِيهَا مُسْلِمٌ وَلَا ذِمِّيٌّ آمِنًا بِالْأَمَانِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَمَانُ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إنَّهَا تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ بِظُهُورِ أَحْكَامِ الْكُفْرِ فِيهَا.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ قَوْلَنَا دَارُ الْإِسْلَامِ وَدَارُ الْكُفْرِ إضَافَةُ دَارٍ إلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَى الْكُفْرِ، وَإِنَّمَا تُضَافُ الدَّارُ إلَى الْإِسْلَامِ أَوْ إلَى الْكُفْرِ لِظُهُورِ الْإِسْلَامِ أَوْ الْكُفْرِ فِيهَا، كَمَا تُسَمَّى الْجَنَّةُ دَارَ السَّلَامِ، وَالنَّارُ دَارَ الْبَوَارِ؛ لِوُجُودِ السَّلَامَةِ فِي الْجَنَّةِ، وَالْبَوَارِ فِي النَّارِ وَظُهُورُ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ بِظُهُورِ أَحْكَامِهِمَا، فَإِذَا ظَهَرَ أَحْكَامُ الْكُفْرِ فِي دَارٍ فَقَدْ صَارَتْ دَارَ كُفْرٍ فَصَحَّتْ الْإِضَافَةُ، وَلِهَذَا صَارَتْ الدَّارُ دَارَ الْإِسْلَامِ بِظُهُورِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِيهَا مِنْ غَيْرِ شَرِيطَةٍ أُخْرَى، فَكَذَا تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ بِظُهُورِ أَحْكَامِ الْكُفْرِ فِيهَا وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إضَافَةِ الدَّارِ إلَى الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ لَيْسَ هُوَ عَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُوَ الْأَمْنُ وَالْخَوْفُ.
وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْأَمَانَ إنْ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالْخَوْفُ لِلْكَفَرَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَهِيَ دَارُ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ الْأَمَانُ فِيهَا لِلْكَفَرَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالْخَوْفُ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَهِيَ دَارُ الْكُفْرِ وَالْأَحْكَامُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْأَمَانِ وَالْخَوْفِ لَا عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ، فَكَانَ اعْتِبَارُ الْأَمَانِ وَالْخَوْفِ أَوْلَى، فَمَا لَمْ تَقَعْ الْحَاجَةُ لِلْمُسْلِمِينَ إلَى الِاسْتِئْمَانِ بَقِيَ الْأَمْنُ الثَّابِتُ فِيهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَلَا تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ، وَكَذَا الْأَمْنُ الثَّابِتُ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا يَزُولُ إلَّا بِالْمُتَاخَمَةِ لِدَارِ الْحَرْبِ، فَتَوَقَّفَ صَيْرُورَتُهَا دَارَ الْحَرْبِ عَلَى وُجُودِهِمَا مَعَ أَنَّ إضَافَةَ الدَّارِ إلَى الْإِسْلَامِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ لِمَا قُلْتُمْ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ لِمَا قُلْنَا، وَهُوَ ثُبُوتُ الْأَمْنِ فِيهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ لِلْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِلْكَفَرَةِ بِعَارِضِ الذِّمَّةِ وَالِاسْتِئْمَانِ، فَإِنْ كَانَتْ الْإِضَافَةُ لِمَا قُلْتُمْ تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ بِمَا قُلْتُمْ.
وَإِنْ كَانَتْ الْإِضَافَةُ لِمَا قُلْنَا لَا تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ إلَّا بِمَا قُلْنَا، فَلَا تَصِيرُ مَا بِهِ دَارُ الْإِسْلَامِ بِيَقِينٍ دَارَ الْكُفْرِ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ أَنَّ الثَّابِتَ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ، بِخِلَافِ دَارِ الْكُفْرِ حَيْثُ تَصِيرُ دَارَ الْإِسْلَامِ؛ لِظُهُورِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِيهَا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ التَّرْجِيحَ لِجَانِبِ الْإِسْلَامِ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى» فَزَالَ الشَّكُّ عَلَى أَنَّ الْإِضَافَةَ إنْ كَانَتْ بِاعْتِبَارِ ظُهُورِ الْأَحْكَامِ، لَكِنْ لَا تَظْهَرُ أَحْكَامُ الْكُفْرِ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ- أَعْنِي الْمُتَاخَمَةَ وَزَوَالَ الْأَمَانِ الْأَوَّلِ- لِأَنَّهَا لَا تَظْهَرُ إلَّا بِالْمَنَعَةِ، وَلَا مَنَعَةَ إلَّا بِهِمَا وَاَللَّهُ-
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ وَقِيَاسُ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي أَرْضٍ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ ظَهَرَ عَلَيْهَا الْمُشْرِكُونَ، وَأَظْهَرُوا فِيهَا أَحْكَامَ الْكُفْرِ، أَوْ كَانَ أَهْلُهَا أَهْلَ ذِمَّةٍ فَنَقَضُوا الذِّمَّةَ.
وَأَظْهَرُوا أَحْكَامَ الشِّرْكِ، هَلْ تَصِيرُ دَارَ الْحَرْبِ؟ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاخْتِلَافِ، فَإِذَا صَارَتْ دَارَ الْحَرْبِ فَحُكْمُهَا إذَا ظَهَرْنَا عَلَيْهَا، وَحُكْمُ سَائِرِ دُورِ الْحَرْبِ سَوَاءٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَلَوْ فَتَحَهَا الْإِمَامُ ثُمَّ جَاءَ أَرْبَابُهَا، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذُوا بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذُوا بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءُوا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ وَعَادَ الْمَأْخُوذُ عَلَى حُكْمِهِ الْأَوَّلِ الْخَرَاجِيُّ عَادَ خَرَاجِيًّا، وَالْعُشْرِيُّ عَادَ عُشْرِيًّا؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ اسْتِحْدَاثَ الْمِلْكِ، بَلْ هُوَ عَوْدُ قَدِيمِ الْمِلْكِ إلَيْهِ، فَيَعُودُ بِوَظِيفَتِهِ إلَّا إذَا كَانَ الْإِمَامُ وَضَعَ عَلَيْهَا الْخَرَاجَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَا يَعُودُ عَشْرِيًّا؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْإِمَامِ صَدَرَ عَنْ وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ، فَلَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: الْأَحْكَامُ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ:

وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ فَأَنْوَاعٌ، مِنْهَا أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا زَنَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ سَرَقَ، أَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ، أَوْ قَذَفَ مُسْلِمًا لَا يُؤْخَذُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إقَامَةِ الْحُدُودِ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ.
وَلَوْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَقَعْ مُوجِبًا أَصْلًا، وَلَوْ فَعَلَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ هَرَبَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ يُؤْخَذُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ وَقَعَ مُوجِبًا لِلْإِقَامَةِ، فَلَا يَسْقُطُ بِالْهَرَبِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَ مُسْلِمًا لَا يُؤْخَذُ بِالْقِصَاصِ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا؛ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ إلَّا بِالْمَنَعَةِ؛ إذْ الْوَاحِدُ يُقَاوِمُ الْوَاحِدَ، وَالْمَنَعَةُ مُنْعَدِمَةٌ، وَلِأَنَّ كَوْنَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْرَثَ شُبْهَةً فِي الْوُجُوبِ.
وَالْقِصَاصُ لَا يَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ، وَيَضْمَنُ الدِّيَةَ خَطَأً كَانَ أَوْ عَمْدًا، وَتَكُونُ فِي مَالِهِ لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ ابْتِدَاءً.
أَوْ لِأَنَّ الْقَتْلَ وُجِدَ مِنْهُ.
وَلِهَذَا وَجَبَ الْقِصَاصُ وَالْكَفَّارَةُ عَلَى الْقَاتِلِ لَا عَلَى غَيْرِهِ، فَكَذَا الدِّيَةُ تَجِبُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً، وَهُوَ الصَّحِيحُ ثُمَّ الْعَاقِلَةُ تَتَحَمَّلُ عَنْهُ بِطَرِيقِ التَّعَاوُنِ لِمَا يَصِلُ إلَيْهِ بِحَيَاتِهِ مِنْ الْمَنَافِعِ مِنْ النُّصْرَةِ، وَالْعِزِّ، وَالشَّرَفِ بِكَثْرَةِ الْعَشَائِرِ، وَالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ لَهُمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي لَا تَحْصُلُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ، فَلَا تَتَحَمَّلُ عَنْهُ الْعَاقِلَةُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ، أَوْ أَمِيرَ جَيْشٍ وَزَنَا رَجُلٌ مِنْهُمْ، أَوْ سَرَقَ، أَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ، أَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا خَطَأً أَوْ عَمْدًا، لَمْ يَأْخُذْهُ الْأَمِيرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ مَا فُوِّضَ إلَيْهِ إقَامَةُ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ؛ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إقَامَتِهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، إلَّا أَنَّهُ يَضْمَنُهُ السَّرِقَةَ إنْ كَانَ اسْتَهْلَكَهَا وَيُضَمِّنُهُ الدِّيَةَ فِي بَابِ الْقَتْلِ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِيفَاءِ ضَمَانِ الْمَالِ.
وَلَوْ غَزَا الْخَلِيفَةُ أَوْ أَمِيرٌ الشَّامَ، فَفَعَلَ رَجُلٌ مِنْ الْعَسْكَرِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَاقْتَصَّ مِنْهُ فِي الْعَمْدِ وَضَمَّنَهُ الدِّيَةَ فِي مَالِهِ فِي الْخَطَأِ؛ لِأَنَّ إقَامَةَ الْحُدُودِ إلَى الْإِمَامِ، وَتَمَكُّنُهُ الْإِقَامَةَ بِمَالِهِ مِنْ الْقُوَّةِ وَالشَّوْكَةِ بِاجْتِمَاعِ الْجُيُوشِ وَانْقِيَادِهَا لَهُ، فَكَانَ لِعَسْكَرِهِ حُكْمُ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَوْ شَذَّ رَجُلٌ مِنْ الْعَسْكَرِ فَفَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ دُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ وَالْقِصَاصُ؛ لِاقْتِصَارِ وِلَايَةِ الْإِمَامِ عَلَى الْمُعَسْكَرِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْحَرْبِيُّ إذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً؛ لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ التَّقَوُّمَ عِنْدَنَا يَثْبُتُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ التَّقَوُّمَ بِالْعِزَّةِ، وَلَا عِزَّةَ إلَّا بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- التَّقَوُّمُ يَثْبُتُ بِالْإِسْلَامِ وَعَلَى هَذَا إذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ- وَلَمْ يَعْرِفْ أَنَّ عَلَيْهِ صَلَاةً وَلَا صِيَامًا ثُمَّ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَسْتَحْسِنُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْوَقْتُ، وَشَرْطُهُ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَالصَّلَاةُ الْوَاجِبَةُ إذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا تُقْضَى، كَالذِّمِّيِّ إذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَعْرِفْ أَنَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ حَتَّى مَضَى عَلَيْهِ أَوْقَاتُ صَلَوَاتٍ ثُمَّ عَلِمَ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ وُجُوبَ الشَّرَائِعِ يَعْتَمِدُ الْبُلُوغَ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِالْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالشَّرْعِ، بِالْإِجْمَاعِ إنْ اخْتَلَفَا فِي وُجُوبِ الْإِيمَانِ، إلَّا أَنَّ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ بَلْ إمْكَانُ الْوُصُولِ إلَيْهِ كَافٍ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهَا دَارُ الْعِلْمِ بِالشَّرَائِعِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهَا دَارُ الْجَهْلِ بِهَا بِخِلَافِ وُجُوبِ الْإِيمَانِ، وَشُكْرِ النِّعَمِ، وَحُرْمَةِ الْكُفْرِ، وَالْكُفْرَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ لَا يَقِفُ وُجُوبُهَا عَلَى الشَّرْعِ، بَلْ تَجِبُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ عِنْدَنَا فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ رَوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- هَذِهِ الْعِبَارَةَ فَقَالَ: كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: لَا عُذْرَ لِأَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ فِي جَهْلِهِ مَعْرِفَةَ خَالِقِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ مَعْرِفَةُ الرَّبِّ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وَتَوْحِيدُهُ؛ لِمَا يَرَى مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَخَلْقِ نَفْسِهِ، وَسَائِرِ مَا خَلَقَ اللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَأَمَّا الْفَرَائِضُ فَمَنْ لَمْ يَعْلَمْهَا، وَلَمْ تَبْلُغْهُ، فَإِنَّ هَذَا لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ حُجَّةٌ حُكْمِيَّةٌ بِلَفْظِهِ.
وَعَلَى هَذَا إذَا دَخَلَ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ، فَعَاقَدَ حَرْبِيًّا عَقْدَ الرِّبَا أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَسِيرًا فِي أَيْدِيهِمْ أَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا، فَعَاقَدَ حَرْبِيًّا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ إلَّا مَا يَجُوزُ لَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ حُرْمَةَ الرِّبَا ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدِينَ، أَمَّا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَظَاهِرٌ.
وَأَمَّا فِي حَقِّ الْحَرْبِيِّ فَلِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالْحُرُمَاتِ وَقَالَ- تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ- {وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} وَلِهَذَا حَرُمَ مَعَ الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ الَّذِي دَخَلَ دَارَنَا بِأَمَانٍ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ أَخْذَ الرِّبَا فِي مَعْنَى إتْلَافِ الْمَالِ، وَإِتْلَافُ مَالِ الْحَرْبِيِّ مُبَاحٌ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا عِصْمَةَ لِمَالِ الْحَرْبِيِّ، فَكَانَ الْمُسْلِمُ بِسَبِيلٍ مِنْ أَخْذِهِ إلَّا بِطَرِيقِ الْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ، فَإِذَا رَضِيَ بِهِ انْعَدَمَ مَعْنَى الْغَدْرِ، بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ؛ لِأَنَّ أَمْوَالَهُمَا مَعْصُومَةٌ عَلَى الْإِتْلَافِ، وَلَوْ عَاقَدَ هَذَا الْمُسْلِمُ الَّذِي دَخَلَ بِأَمَانٍ مُسْلِمًا أَسْلَمَ هُنَاكَ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ وَلَوْ كَانَا أَسِيرَيْنِ أَوْ دَخَلَا بِأَمَانٍ لِلتِّجَارَةِ فَتَعَاقَدَا عَقْدَ الرِّبَا أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ أَخْذَ الرِّبَا مِنْ الْمُسْلِمِ إتْلَافُ مَالٍ مَعْصُومٍ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ مَعْنًى؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ حَرَّمَ عَلَيْهِ أَنْ تَطِيبَ نَفْسُهُ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ زَادَ وَاسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى» وَالسَّاقِطُ شَرْعًا، وَالْعَدَمُ حَقِيقَةً سَوَاءٌ فَأَشْبَهَ تَعَاقُدَ الْأَسِيرَيْنِ وَالتَّاجِرَيْنِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَخْذَ الرِّبَا فِي مَعْنَى إتْلَافِ الْمَالِ، وَمَالُ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْإِتْلَافِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ نَفْسَهُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِالْقِصَاصِ وَلَا بِالدِّيَةِ عِنْدَنَا، وَحُرْمَةُ الْمَالِ تَابِعَةٌ لِحُرْمَةِ النَّفْسِ، بِخِلَافِ التَّاجِرَيْنِ وَالْأَسِيرَيْنِ، فَإِنَّ مَالَهُمَا مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ، وَعَلَى هَذَا إذَا دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ، فَأَدَانَهُ حَرْبِيٌّ أَوْ أَدَانَ حَرْبِيًّا، ثُمَّ خَرَجَ الْمُسْلِمُ وَخَرَجَ الْحَرْبِيُّ مُسْتَأْمَنًا، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِالدَّيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ شَيْئًا لَا يَقْضِي بِالْغَصْبِ؛ لِأَنَّ الْمُدَايَنَةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَعَتْ هَدَرًا؛ لِانْعِدَامِ وِلَايَتِنَا عَلَيْهِمْ وَانْعِدَامِ وِلَايَتِهِمْ أَيْضًا فِي حَقِّنَا، وَكَذَا غَصْبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَادَفَ مَالًا غَيْرُ مَضْمُونٍ فَلَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ حَرْبِيَّيْنِ دَايَنَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ثُمَّ خَرَجَا مُسْتَأْمَنَيْنِ، وَلَوْ خَرَجَا مُسْلِمَيْنِ لَقُضِيَ بِالدَّيْنِ لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ، وَلَا يُقْضَى بِالْغَصْبِ لِمَا بَيَّنَّا إلَّا أَنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ كَانَ هُوَ الْغَاصِبَ يُفْتَى بِأَنْ يَرُدّ عَلَيْهِمْ وَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ غَادِرًا بِهِمْ نَاقِضًا عَهْدَهُمْ، فَتَلْزَمُهُ التَّوْبَةُ، وَلَا تَتَحَقَّقُ التَّوْبَةُ إلَّا بِرَدِّ الْمَغْصُوبِ، وَعَلَى هَذَا: مُسْلِمَانِ دَخَلَا دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ بِأَنْ كَانَا تَاجِرَيْنِ مَثَلًا فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَمْدًا لَا قِصَاصَ عَلَى الْقَاتِلِ لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ، وَالْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا دَخَلَا دَارَ الْحَرْبِ لِعَارِضِ أَمْرٍ، إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ، أَوْ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَوْ كَانَا أَسِيرَيْنِ، أَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ أَسِيرًا مُسْلِمًا فَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ إلَّا الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَأِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِنْدَهُمَا عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْأَسِيرَيْنِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْمُسْتَأْمَنِينَ، وَإِنَّمَا الْأَسْرُ أَمْرٌ عَارِضٌ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْأَسِيرَ مَقْهُورٌ فِي يَدِ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَصَارَ تَابِعًا لَهُمْ فَبَطَلَ تَقَوُّمُهُ- وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا: الْحَرْبِيُّ إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ الْحَرْبِيَّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَنْفُذُ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَنْفُذُ وَقِيلَ لَا خِلَافَ فِي الْعِتْقِ أَنَّهُ يَنْفُذُ، إنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْوَلَاءِ أَنَّهُ هَلْ يَثْبُتُ مِنْهُ؟ عِنْدَهُمَا لَا يَثْبُتُ وَعِنْدَهُ يَثْبُتُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ رُكْنَ الْإِعْتَاقِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِ الْإِعْتَاقِ فِي مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ لِلْمُعْتَقِ، فَيَصِحُّ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْإِعْتَاقَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُفِيدُ زَوَالَ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ حَقِيقَةٌ، فَكُلُّ مَقْهُورٍ مَمْلُوكٌ، وَكُلُّ قَاهِرٍ مَالِكٌ، هَذَا دِيَانَتُهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ سِوَى الْقُدْرَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، حَتَّى إنَّ الْعَبْدَ مِنْهُمْ إذَا قَهَرَ مَوْلَاهُ يَصِيرُ هُوَ مَالِكًا، وَمَوْلَاهُ مَمْلُوكًا، وَهَذَا لَا يُفِيدُهُ الْإِعْتَاقُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلَا يُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِ الْمَالِكِ، هَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَشَايِخِنَا لِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُعْتَقٌ بِلِسَانِهِ مُسْتَرَقٌّ بِيَدِهِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى قَرِيبًا لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَقُ بِصَرِيحِ الْإِعْتَاقِ فَكَيْفَ يُعْتَقُ بِالشِّرَاءِ وَكَذَلِكَ لَوْ دَبَّرَهُ أَوْ كَاتَبَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى لَوْ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ، وَمَعَهُ مُدَبَّرٌ أَوْ مُكَاتَبٌ دَبَّرَهُ أَوْ كَاتَبَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ جَازَ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ إعْتَاقٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْكِتَابَةُ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِشَرْطِ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، ثُمَّ لَمْ يَنْفُذْ إعْتَاقُهُ الْمُنْجَزُ، فَكَذَا الْمُعَلَّقُ وَالْمُضَافُ، وَلَوْ اسْتَوْلَدَ أَمَتَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ صَحَّ اسْتِيلَادُهُ إيَّاهَا، حَتَّى لَوْ خَرَجَ إلَيْنَا بِهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ اكْتِسَابُ ثَبَاتِ النَّسَبِ لِلْوَلَدِ.
وَالْحَرْبِيُّ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَنْسَابَ أَهْلِ الْحَرْبِ ثَابِتَةٌ؟ وَإِذَا ثَبَتَ النَّسَبُ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ، فَخَرَجَتْ عَنْ مَحَلِّيَّةِ الْبَيْعِ؛ لِكَوْنِهَا حُرَّةً مِنْ وَجْهٍ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» وَلَوْ دَخَلَ الْحَرْبِيُّ إلَيْنَا بِأَمَانٍ فَفَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ نَفَذَ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ بِأَمَانٍ فَقَدْ لَزِمَهُ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ مَا دَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.
وَمِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْمُعْتِقُ أَنْ يَسْتَرِقَّ بِيَدِهِ مَا أَعْتَقَهُ بِلِسَانِهِ، وَلَوْ دَبَّرَ عَبْدَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَخَلَفَ الْمُدَبَّرَ، أَوْ خَلَفَ أُمَّ وَلَدِهِ الَّتِي اسْتَوْلَدَهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ أَوْ قُتِلَ أَوْ أُسِرَ يُحْكَمُ بِعِتْقِهِمَا أَمَّا إذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَ يُعْتَقَانِ بِمَوْتِ سَيِّدِهِمَا، وَالْمَقْتُولُ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ، وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ الْمُعْتَزِلَةِ.
(وَأَمَّا) إذَا أُسِرَ فَلِأَنَّهُ صَارَ مَمْلُوكًا فَلَمْ يَبْقَ مَالِكًا ضَرُورَةً.
وَأَمَّا مُكَاتَبُهُ الَّذِي كَاتَبَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَدَخَلَ هُوَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ مُكَاتَبٌ عَلَى حَالِهِ، وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ عَلَيْهِ لِوَرَثَتِهِ إذَا مَاتَ، وَكَذَلِكَ الرُّهُونُ وَالْوَدَائِعُ وَالدُّيُونُ الَّتِي لَهُ عَلَى النَّاسِ.
وَمَا كَانَ لِلنَّاسِ عَلَيْهِ فَهِيَ كُلُّهَا عَلَى حَالِهَا إذَا مَاتَ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ وَمَعَهُ هَذِهِ الْأَمْوَالُ، فَكَانَ حُكْمُ الْأَمَانِ فِيهَا بَاقِيًا، وَكَذَلِكَ لَوْ ظَهَرَ عَلَى الدَّارِ فَظَهَرَ الْحَرْبِيُّ أَوْ قُتِلَ وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَى الدَّارِ، فَمِلْكُهُ عَلَى حَالِهِ يَعُودُ فَيَأْخُذُ، أَوْ يَجِيءُ وَرَثَتُهُ فَيَأْخُذُونَهُ لَهُ أَمَّا إذَا هَرَبَ وَلَمْ يُقْتَلْ وَلَمْ يُؤْسَرْ فَظَاهِرٌ.
وَأَمَّا إذَا قُتِلَ وَلَمْ يَظْهَرْ، فَلِأَنَّ مَالَهُ صَارَ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ، فَيَجِيئُونَ فَيَأْخُذُونَهُ، وَالْمُكَاتَبُ عَلَى حَالِهِ يُؤَدِّي إلَى وَرَثَتِهِ فَيُعْتَقُ، فَأَمَّا إذَا ظَهَرَ وَأُسِرَ، أَوْ أُسِرَ وَلَمْ يَظْهَرْ، أَوْ ظَهَرَ وَقُتِلَ يُعْتَقْ مُكَاتَبُهُ أَمَّا إذَا ظَهَرَ وَأُسِرَ، أَوْ أُسِرَ وَلَمْ يَظْهَرْ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ بِالْأَسْرِ وَكَذَا إذَا ظَهَرَ وَقُتِلَ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ بَعْدَ الظُّهُورِ قَتْلٌ بَعْدَ الْأَسْرِ، وَيَبْطُلُ مَا كَانَ لَهُ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ بِالْأَسْرِ صَارَ مَمْلُوكًا فَلَمْ يَبْقَ مَالِكًا، فَسَقَطَتْ دُيُونُهُ ضَرُورَةً.
وَلَا يَصِيرُ مَالِكًا لِلْأَسْرِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ فِي الذِّمَّةِ، وَمَا فِي الذِّمَّةِ لَا يُعْمَلُ عَلَيْهِ الْأَسْرُ، وَكَذَلِكَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدُّيُونِ يَسْقُطُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ لَتَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ فَلَا يَخْلُصُ السَّبْيُ لِلسَّابِي وَأَمَّا وَدَائِعُهُ فَهِيَ فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّهَا تَكُونُ فَيْئًا لِلْمُودَعِ.
(وَوَجْهُهُ) أَنَّ يَدَهُ عَنْ يَدِ الْغَانِمِينَ أَسْبَقُ، وَالْمُبَاحُ مُبَاحٌ لِمَنْ سَبَقَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ يَدَ الْمُودَعِ يَدُهُ تَقْدِيرًا، فَكَانَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهِ بِالْأَسْرِ اسْتِيلَاءً عَلَى مَا فِي يَدِهِ تَقْدِيرًا، وَلَا يَخْتَصُّ بِهِ الْغَانِمُونَ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ حَقِيقَةً، فَكَانَ فَيْئًا حَقِيقَةً لَا غَنِيمَةً، فَيُوضَعُ مَوْضِعَ الْفَيْءِ وَأَمَّا الرَّهْنُ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَكُونُ لِلْمُرْتَهِنِ بِدَيْنِهِ، وَالزِّيَادَةُ لَهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يُبَاعُ فَيَسْتَوْفِي قَدْرَ دَيْنِهِ، وَالزِّيَادَةُ فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.